ماذا تمثل الذكريات للإنسان؟ وهل في مكنته أن يتخلى عنها، فيطرحها وراء ظهره ويرميها في التراب؟ إن هذا قد يحدث فعلا، لكنه عندئذ
يكون انقلاباً في حياته، لكأن القيامة قد قامت. هذه الذخيرة من الذكريات التي هي تاريخ الإنسان بتمامه، وصفها الشاعر أمل دنقل يوما "فقال "هي أشياء لا تشتري
في قصة سمير الفيل «النيشان» يخرج الأسطى «مرجان» «من بيته حاملا شيئا نفيساً، هو ينوي بيع هذا الشيء لحاجته للنقود، لم يحدد مرجان ثمناً لبضاعته، عرض«كنزه» على مشترين كُثْر، لكنه لم ينلْ من أي واحد منهم إلا الإعراض، لم يساوموا حتى في السعر، فلم يسبق لمرجان ولا لزبائنه أن باعوا أو اشتروا شيئا من هذا الصنف، يترك مرجان «كنزه» على منضدة في مقهى، ويمضي بعد أن تعاطى كوب شاي، فيناديه النادل لكي يعود لأخذ «العلبة» التي تركها في المقهى، لكن مرجان لا يسمع نداء النادل، لقد بدا فاقداً للسمع تماما. تحوي العلبة المتروكة في المقهى «نيشاناً» حصّله مرجان جائزة لبطولته في حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ ضمن كتائب الأبطال الذين خاضوا أشرس المعارك، في ثغرة «الدفرسوار».
قصة «النيشان» واحدة من قصص مجموعة «فك الضفيرة» (دار غراب بالقاهرة ٢٠٢٠)، لكاتبها سمير الفيل (مواليد ١٩٥١) الذي أصبح واحداً من كتاب قليلين في مصر والعالم العربي، يواظبون على كتابة القصة القصيرة، وهو ينشر قصصه على القراء، في وسائل التواصل الاجتماعي، ثم في مجموعات في كتب.
كان سمير الفيل ومايزال معنيا بالقصة القصيرة في قالبها المعتاد «الموباساني» و«التشيكوفي» و«الإدريسي» لكنه في مجموعة «فك الضفيرة» أقرب إلى تشيكوف، منه إلى غيره، ليس من ناحية مساحة النص فحسب، بل من ناحية اختياره لأبطاله المقهورين، حيث لا يتتبع الكاتب حياة الأبطال في طولها وعرضها، بل هو فقط يمس في لقطة سريعة جدا، كيف يقع الإنسان منكفئا على وجهه من الكَمَد، وكيف تهزمه قوة غاشمة، ليست خفيّة، ولا هي تريد أن تتخفّى، إنها قوة تمشي في الأسواق (أسعار السلع الضرورية) وتقبع في المكاتب والمحالّ (أصحاب الأعمال) أو حتى تقيم في البيوت ( الزوجات أحيانا).
في قصة «رُمّان فَرْط» تتجول الفتاة الجميلة «هند» على المحالّ، تطلب عملا، وقد طالت بها الجولة، حتى أوشك صبرها أن ينفد، ثم وجدت «معرضا» مطلا على كورنيش النيل، فدخلت لتجد رجلا في الخامسة والأربعين شديد العناية بمظهره، فيسألها: ما مؤهلاتك؟ فتجيب: دبلوم تجارة. حدد صاحب المعرض موعدا لكي يجري اختبارا لهند، قال إنه اختبار تحريري قاسٍ، وفي الغد وجدت هند أن صاحب العمل قد أملى عليها المسألة الحسابية التالية: ٣٦٥ × ٢٤ وحينما انكبت على الورقة تحسب الحسبة، كان الرجل الأنيق قد أحاط بها، وشرع في إدخال يديه يريد العبث بصدرها، فقامت هند وانتزعت الورقة وغادرت المعرض. لقد كان اختبارا في الأخلاق لا في حساب الجمع والقسمة. هند لديها أب وأم وهما يعملان، لكنها أرادت أن «تكون» بأن تعمل وتكسب المال، وتحقق نفسها في الحياة، لكن سوق العمل، أراد منها أن تقدم، لا عقلها ولا عرق جبينها، بل جسدها يستباح مقابل المال.
وفي قصة «كيلو ونصف لحم» نرى «فتحي» الذي يعمل منجدّاً، يواجه إلحاح زوجه في طلب اللحم مع الأرز والخضراوات والفاكهة، والزوجة «حفيظة» ربة منزل لا تعمل، ولا تلتفت إلا نحو رغباتها، أما فتحي فقد عضّه «السُّوق» والأسعار التي تعلو فلا تهبط، خاصة سعر اللحم، لم يجد فتحي بداً من أن يسرق القرط الذهبي من أذن امرأته حفيظة وهي نائمة، ويشتري لها اللحم الذي تلح في طلبه، لكن حفيظة تكشف جريمة الزوج، فيتركنا الراوي نخمن ماذا سيجري، وقد وقع الزوج المطيع في قبضة زوجه اللحوح متلبسا بسرقة «مصاغها».
تعطينا قصة «التركة» ملخصا شديد الإيجاز، لا لحياة رجل واحد أو أسرة واحدة، بل جيل كامل، من المصريين الكادحين، فهذا المهندس «أكرم» الذي قضى عمرا بلغ عشرين عاما في بلد عربي من بلدان الخليج، يمدّ الطرق ويشيّد الجسور، ثم عاد هو وزوجه «هنيّة» الممرضة في المستشفى العام، لقد أغراه ارتفاع سعر الدولار أن يشتري بمدخراته بيتا في المدينة له ولأبنائه، البيت مكون من «بدروم» وثلاث طبقات، وللمهندس أكرم من الأبناء ثلاثة ذكور، أخذ يزوّج كل واحد منهم حين يحلّ دوره، في طبقة من الطبقات الثلاث، وانتهى به الأمر أن أنزل أثاث بيته إلى البدروم لكي يصبح مسكنا له هو وزوجه، كان المهندس «أكرم» قد استبان له أنه مصاب بفيروس «سي» لكنه حين مات، أخبر العارفون من جيرانه أن الفيروس لم يقتله، قتله الغم والكمد، بعد أن أصبح مصيره السكنى في بدروم البيت.
جعل الكاتب سمير الفيل مجموعة «فك الضفيرة» في عدة أقسام أولها «نصوص حزينة» وهناك قسم لما يسميه «ومضات» وهي تلك النصوص المكتنزة للغاية التي يطلق عليها «القصة القصيرة جدا». هذه الومضات من نمط مختلف عن القصة القصيرة التي نحللها هنا، لكنها لم تخرج عن جوّ الكآبة والفقد والموت.
مجموعة «فك الضفيرة» هي المجموعة رقم ١٨ في الإبداع القصصي للكاتب سمير الفيل، صاحب الخبرة الممتدة في الزمن لذلك من حقنا أن نؤاخذه على بعض الهنات اللغوية، مثل وصفه للصمت بالصمت الرجيم في قصة «دفء»، أو وصف الفتاة «بالنصف جميلة» في قصتي «الفابريقة» و«عادي»، وكذلك قوله عن السفينة أنها سقطت في البحر والمقصود غرقت.
«الموت مع تشيكوف أرحم بكثير من الموت مع غيره» هكذا يحدث نفسه بطل قصة «بروفة»، هو يفكر في الانتحار عجزا ويأسا، برغم أنه تخرج في كلية الهندسة، وهو قارئ عاشق لقصص تشيكوف، لكن ضيق ذات اليد يجعله حتى حين يفكر في تعاطي السم، أن يقترض من صديقه مالا ليشتري «ربع كيلو كباب مع سلطات وطحينة طازجة بعدها ابتلع السم». وبرغم أن هذه القصة قد بنيت على أسلوب «المنولوج الداخلي» إلا أنها لم تخرج عن سياق قصص المجموعة من حيث عجز الشخصيات ويأسها، أمام تحديات الحياة الاقتصادية البائسة.
إن أغلب قصص مجموعة «فك الضفيرة» تنتهي بوفاة طبيعية، أو غرق في البحر، أو انتحار، يتسرب إلى القراء إحساس باليتم والفقدان، كما أحس بهما الحصان الذي مات صاحبه في قصة «إحاطة» حيث يموت الحوذي، وهو راكب فوق العربة، فلا يدري به أحد، لكن الحصان عَلِم أن صاحبه قد مات، فتأسّى لحاله في انتظار من سيأتي، ليحل محل الحوذي الميت.
ستبلغ المفارقة ذروتها في قصة «عادي» التي تحكي عن فتاة لا تحب أن تأخذ الحياة على محمل الجد حتى لا تكتئب أو تموت، لذلك تجاهلت كل المصائب والبلايا التي أصابتها في أسرتها، لكنها في النهاية أقدمت على الانتحار حينما تجهّمت لها فرقة من الأدباء اجتمعوا في ناديهم، فوصموا قصيدتها بوصمة «المراهقة، والركاكة، وأنها كتابة لا يعتد بها» لقد كانت المقابلة الفاترة من هؤلاء الأدباء، وإحجامهم عن رد التحية للفتاة، وتركها تجلس على كرسي ذي ثلاثة أرجل، ثم في النهاية الإزراء بقصيدتها، كان ذلك جريمة مكتملة الأركان، ارتكبها الأدباء، وهم قعود في نادي الأدب، وكأنها شيء «عادي».
قصص سمير في مجموعته «فك الضفيرة، هي مفارقات متراكبة، استطاع الكاتب أن يصنع منها مفارقات سردية آسرة، وصادقة، لكنها، مثل الحياة تماماً، حزينة حدّ الألم.