دار غراب للنشر والتوزيع
الفصل الأول من رواية كهنوت
مقدمة
القُدَّاس الأسود
(تاريخ اليوم - القاهرة المنكوبة - كنيسة الشيطان)
غيوم اللعنة تُحلِّق في سماء العاصمة، فوق رؤوس البُغاة.. تنامت الخطايا والذنوب حتى أصبحت قنابل موقوتة، توشك على الانفجار.. دُقّت أجراس القيامة بغتة.. ذُهل الناس.. وهُلعت الأفئدة.. لا فرق بين بكاء النساء والأطفال، وبين نحيب الرجال.. يوم الحسرة الكبرى.
- أُغلق باب التوبة.. لقد ولّى عهد الاستغفار.
تراهم مشدوهين.. يترقبون العذاب الأليم.. اجتمعت الحشود في كل مكان، تتابع تلك الأهوال عن كثب، وتتبعهم أذيال الخيبة والخسران.
- جاءنا الآن -أعزائي المشاهدين- نبأٌ عاجلٌ: أعلن السيد جنكيز خان -إمبراطور المغول- الحرب على الدولة الخوارزمية، وتحرّك بجيوشه الجرَّارة إلى بلاد ما وراء النهر.. كما وصل إلى البلاد اليوم الملك مينا -مُوحِّد القطرين- على رأس موكبه الملكي، بعد رحلةٍ استغرقت خمسة أشهر.. ننتقل الآن إلى بث مباشر، لكلمة الرئيس الأمريكي.
تداخلت الأزمنة في حاضر واحد، واكتظت الشوارع والميادين بشتى أصناف البشر، ممن عاشوا أجمعين على تلك الأرض عبر آلاف السنين.. وكأنها أرض الحشر، قد نُودي لقيامتهم الحين، وها هم شاخصون.. جاء القدر في موكبٍ مهيب، وصار العذاب نافذًا من دون رجعة.. حلقت الغربان في سمائهم، تنتظر جيَفهم المتعفنة وجبةً دسمة، ولكن هيهات! فالموت أصبح مَن تلك اللحظة أمنية مستحيلة.
شهور متتالية والناس لا يموتون.. حروب وصراعات ودماء تنزف، والبشر محرومون من الموت.
المرء قد يفقد كل دمه، يُخلع قلبه مِن بين جسده ولا يموت.
بات الناس يتألمون بجراحهم من دون خروج الروح.. أحدهم قُطع رأسه في معركة على أبواب القاهرة بالسيف، وظلت روحه عالقة تأبى الخروج.. أجساد هالكة من دون موت.
وكأنّ طاعونًا شرِهًا أصاب الجميع من دون تمييز.. امتلأت الوجوه بالبثور، وذبلت العيون، وخارت القوى عن آخرها.. ترى المرء يجرجر أمعاءه المتشابكة خارج بطنه، التي شقها أحدهم بحثًا عن الطعام.. وآخر يقطع فخذيه بسكين؛ ليُطعم أولاده.. ورجالًا يخبطون رؤوسهم في الحوائط والجدران؛ رغبةً في الموت المستحيل.. أحدهم شقّ صدره، وانتزع قلبه بيديه، مُقطّعًا أوصاله بجنون هيستيري، مِن دون أن ينال مراده.. الموت.
عجز رجال الدين والعلماء عن تفسير ما يحدث، وخرست ألسنة الحكومات في شتّى البقاع..
امتلأت سماؤهم بالطائرات الحربية.. كل يوم يتكرر وكأنّ الزمن توقف، وأصبحت الدنيا يومًا واحدًا، تجمع أحداثها الجسام في آن واحد.
الحرب العالمية الأولى والثانية، حرب المماليك والأتراك، حملة نابليون بونابرت، التتار، المغول، حروب قدماء المصريين مع جيرانهم، زمن فرعون ذي الأوتاد.
نكسة 67 وحرب 56.. ملوك ورؤساء تتصارع.. كل ما يخطر في بالك يحدث إلا الموت، وإن قُطعت الرؤوس وحُرقت الأجساد وتحولت لأشلاء لا ينالونه أبدًا.. حُرِّم عليهم وكأنهم في الجحيم.. خلودٌ أبدي في عذابٍ لا يُقارن.
هُدمَّت البيوت، وساد الخراب، وطالت اللعنة كل شيء.. اجتمعت الدول الكبرى؛ لتتباحث تلك الأزمة، محاولة البحث عن حلول من دون جدوى.. لم ينجحوا إلا في توفير بعض الملاجئ الآمنة -لرجال حكوماتهم وعائلاتهم- في شبكات الصرف الصحي القديمة تحت الأرض، وبعض الغذاء والمؤن المهددة بالنفاد.. توقف الناس عن العمل، وساد الكساد، ونَدر الطعام، وأصبح المال لا قيمة له.. تصارعوا لفترة على المحالّ والمطاعم حتى خربت، ثم تضوروا جوعًا وعطشًا.
شهور من العذاب وهم مشردون في الدروب والشوارع.. البعض يأكل بعضه حيًّا، ولكن لا المأكول يموت، ولا الآكل يشبع.. أبواب من الجحيم فُتحت على مصراعيها على بني البشر، ولا مغلق لها.. حاولوا الهجوم على ملاجئ الحكومة مرات ومرات، فسرت شحنات عالية من الكهرباء في أجسادهم، كادت تحرق بعضهم من دون موت.. أحكمت السلطات أسيجة موصلة بمصادر كهرباء صاعقة، تمنع أي غازٍ يفكر في اختراق ملاجئهم.
تراكمت الأزمنة مِن دون أنبياء.. بحث الناس عنهم كثيرًا مِن دون جدوى.. فاليوم لا نذير لهم ولا شفيع.. قد مضى عهد الرسل، ولا داعيَ لوجودهم.. قد حقّ العذاب.. رسالة واضحة..
لقد أشاح الله وجهه عن الدنيا وما فيها غاضبًا.. هكذا قال العوام.
البعض يحكي أنّ تلك اللعنة بسبب ساحر قديم، تحالف مع الشيطان، وتوارثت لعنته أجيالٌ وأجيال.. وأنّ مُخلِّصهم مِن تلك اللعنة شخصٌ، ستحلّ روحه في أجساد كل الخطائين من قبله؛ ليُصلح خطاياهم.. حينها سيعود كل شيء أدراجه وكأنه لم يكن.. إنهم يُقسمون أنّ تلك القصة صيغت روائيًا بعنوان "النبَّاش" للكاتب المصري ذي الأصول اليهودية "يعقوب إدريس" الذي لقي عقوبة الإعدام قبل تلك الأحداث بقليل، بتهمة التخابر مع إسرائيل، لكن لم يعثر أحد على هذه الرواية بعد مصادرتها.
حتى مخازن الحكومة احترقت عن بكرة أبيها، فلم يتأكد أحد من تلك القصة المزعومة.
يقولون إنّ ذلك المُخلِّص اسمه -يحيى عبد النور بركات- كما جاء في الرواية.. ولكن هذا الشاب عُثر عليه مذبوحًا في شقته، يوم إعدام الروائي اليهودي، وهو نفس اليوم الذي بدأ فيه كل شيء.. وكأنّ موت الاثنين كان إعلانًا لبدء الجحيم.
وفي صحراء القاهرة المنكوبة، شُيِّد قصرٌ فخمٌ كالجنَّة وسط الدمار.. بين عشيّة وضحاها.. قصرٌ لم تمسسه الطائرات بقذائفها.. يعتقدون بأنّ له مجالًا جويًّا يصعب اختراقه.. ارتفع شاهقًا في سماءٍ، تنذر بالأسوأ في كل لحظة.. جُهِّز بأحدث التقنيات.. وتلألأ بلونه الأسود وجوانبه الذهبية البراقة.. كان الأول مِن نوعه، ثم تتابع أمثاله في العالم أجمع، فلم تخلُ مدينة منه بنفس الطراز.. ربما أصبح أكثر البقع أمانًا وملاذًا لراغبيه.. وظهر المالك الأوحد..
رجل شديد الغموض.. فريد مهران.. في الخمسين مِن عمره.. اشتعل الشيب في رأسه قبل موعده.. هادئ الطباع ويملك ابتسامة لا تفارق وجهه مهما يحدث.. لا يعرف أحد أصوله ولا كيف ظهر.. وحاولت الحكومة تتبعه، ولكن تتابع الأحداث وسوءها لم يسمح لهم بذلك.
كل ما يعلمونه عنه أنه صاحب ذلك القصر العظيم.. خرج يومًا يخاطبهم، في حديثٍ مُصَوّر على أبواب قصره، وتناقله الجميع كالنار في الهشيم:
- أعلم أنكم تعانون وتتمنون الموت.. هل لكم من مغيث؟
إنّ للبشر حينًا من الدهر يمرّون على القبور ويحسدون أصحابها!
دعوني أخبركم الحقيقة من دون تزييف أو خداع..
لقد كان الإنسان دومًا يخلق آلهته بدلًا من أن تخلقه الآلهة..
منذ قديم الأزل تتحاملون وتلعنون الشيطان، أليس كذلك؟
تعتقدون أنه مصدر الشر الوحيد في العالم.. هو من يوسوس لكم
لتقتلوا وتسرقوا وتحرقوا وتزنوا وتمارسوا الشذوذ
وكل ما هو إثم وإفّك وفساد.. بل وتدعوا إلهكم المزعوم ليعصمكم منه..
والآن أين منقذكم ومغيثكم، الذي لطالما دعوتموه لينجيكم؟
يترككم تتجرعون العذاب والهوان.. ضاربًا بآلامكم وأنينكم عرض الحائط..
في الحروب يبحث المرء عن حلفاء جدد.. أيًّا كانت عداواته السابقة..
اليوم تتغير التحالفات والمعتقدات تبعًا للمستجدات مِن العذاب..
يا معشر الإنس.. سأقولها لكم مِن دون خوف..
إنني رسول الشيطان إليكم، وأمد لكم يد العون والنجاة نيابة عنه..
وبكل صدق وضمير أُعلنها لكم:
ظُلِم الشيطان، وما أجمله! قد ملأت نفسه الرحمة والغفران.
قاومه الكثيرون في البداية، ولعنه البعض، وهاج وماج رجال الدولة والعلماء، وانعقدت الجلسات المغلقة، باحثين عن سبل لمواجهة ذلك الأفاك اللعين.
ومع استمرار العذاب خَفتَت المعتقدات، وذابت شموع الإيمان، وبات الإنسان عاريًا من كل دين ومِلّة.. فُتحت أبواب قصره للجموع الحاشدة.. موائد فيها كلّ ما لذَّ وطاب.. أمان بين أسواره المتباعدة، على أرض تتجاوز الأربعين كيلو مترًا.
وتتابع الناس أفواجًا، يدخلون في زمرة الشيطان، من دون تفكير أو تردد.. بل وتشاحنوا بكل قوة على أبواب القصر، المزدحمة ساحاته الداخلية بشدة، فلا تكاد تجد مكانًا لقدم.
كنيسة الشيطان.. هكذا أُطلق عليها، واعتاد الناس على وجودها بين مؤيد ومعارض، وكأنه مقر حزب سياسي، لمرشح ذي شعبية جارفة.. القلائل فقط هم من تحمَّلوا العذاب وابتعدوا، طالبين من الله الرحمة والنجاة.. وفي المقابل لم يُطلب مِن رواد الكنيسة شيءٌ يُذكر، غير القسَم الإبليسي بدايةً.. صيغة يردُّدها المنضمون في حشد كبير، بأصوات حماسية:
أقسم بإبليس المُبجَّل أن أكون عبدًا مخلصًا.. وأن اتبع الطاغوت دينًا وحكمًا، وأصير من الساجدين.
الشيطان.. الطاغوت.. المُنتظر
لم يتردد أحد في النطق بذلك، من دون أن يفقهوا أو يسألوا عما يقسمون به بعد الشيطان..
فقط يدينون بالشكر والعرفان لمولاهم الشيطان، مع ممارسة الشعائر اليومية التي علّمهم إياها فريد مهران، وعمادها السجود للشيطان مرتين يوميًّا، مع قراءة بعض التعاويذ غير المفهومة، وترتيلها، ثم الاستمتاع بالأمان والطعام والعون، وإرضاء الشهوات في حضرة إبليس.
وقف فريد مهران أمام مرآته، في الدور العلوي وسط غرفته الواسعة، ذات الجدران المطلية بالذهب.. ارتدى معطفه الأسود في زهو وغرور واضحين، تراهما في عينيه الثاقبتين ممتزجين بشرود استثنائي يقاومه.. نظر إلى كلبه الأسود الصامت بجواره، وابتسم مربّتًا على رأسه:
- لا تقلق يا عزيزي، فالحفل لم يبدأ بعد.
أعلن مهران عن ذلك الحفل منذ فترة كأول مرة، بعد شهور من النعيم بين جنبات قصره.. حفل سيُنقل مباشرةً عبر شبكة الإنترنت، التي عادت للعمل بكفاءةٍ عالية، منذ إنشاء قصره المُطابق لمائة قصر ظهرت بعده في العالم أجمع.. كنائس الشيطان أصحبت الأكثر دفئًا ونعيمًا في العالم المشرّد، المحروم مِن الموت.
لقّبه الناس بالكاهن الأعظم، وتبعه كل كهنة الكنائس الأخرى، بل إن الحشود راحت تتابع الحفل في كل مكان في العالم عن كثب.
مد يده ليتناول ذلك الكتاب الأثري الصفراء أوراقه.. مسح بيده بعض الأتربة على غلافه ليظهر عنوانه جليًّا: الطاغوت "دين الشيطان".
فتح صفحته الأولى، وبدأ في قراءة المقدمة وأنفاسه تتسارع، محاولًا إحكام السيطرة عليها:
- أمنحُ أتباعي مُلكًا لا ينقطع، وروحًا لا تموت، وخلودًا لا يُنتقص، ولذَّة أبدية لا تفنى.
إبليس
يعلم مهران أنّ البعض يُطلق عليه لقب المسيح الدجال، وأنّ قصره هذا -الجنة بالنسبة لمرتاديها- يصفونها بالجحيم، وكلام من هذا القبيل الذي لا طائل منه، بالنسبة له وللمعذبين والملعونين.
طوى كتابه بيساره، واحتضنه، واتجه للطابق السفلي، فوق درجات من المرمر، وتبعه كلبه المخلِص.. أصوات الحشود تقترب.. يوم لا مثيل له.. سيتغير كل شيء بعد قليل، وتُفجَّر المفاجأة الكبرى.. كان للقصر واجهة زجاجية ضخمة، تبرز ما خلفه -إن أراد صاحبه ذلك- أو تخفيه.. انبثقت منه إضاءة بيضاء ساطعة كالشمس، وسط ذلك الليل الحالك السواد.. ظهر الكاهن الأعظم في شرفة قصره، ذات الدرجات الأمامية الموصلة إلى منتصف ساحته.. هلل الجميع:
- يحيا الكاهن الأعظم.. يحيا الشيطان.
قد سُلب الناس عقولهم.. لقد تحولوا إلى حيوانات ناطقة.. يمارسون الفحشاء علنًا ولا يتوارون.. أصبحوا أكثر عدائية وتناحرًا، وتلاشت كل سمات البشر من تعاملاتهم، وكأنهم مُسخوا مسوخًا دميمة.. لم يُسمح لهم من قبل بالمبيت في تلك الكنيسة مهما حاولوا.. ولكنها باتت دائمًا مصدر أمانهم المزعوم.
استهل فريد زهران خطبته بشعرٍ، على لسان بشار بن برد:
- إبليس خيرٌ مِن أبيكم آدم فتنبهوا يا معشرَ الفُجّار
إبليس مِن نارٍ وآدم طينة والأرض لا تَسْمُو سموَّ النار
هللوا كالبهائم يهتفون:
- يحيا الكاهن الأعظم.. يحيا الشيطان.
تتلاعب كشّافات الإضاءة على وجوههم بين الأحمر والأصفر والأخضر، وعيونهم تتبدل ألوانها كجلود السحالي.. قد ران على قلوبهم لا محيص.. غُلِّقَت الأبواب، والآلاف يتدافعون في الخارج، متابعين خطاب كاهنهم، على شاشات عملاقة خارج القصر.. موسيقى عالية، تعزفها فرقة موسيقية على منصة عالية، في جانب ساحة القصر.. موسيقى الشيطان.. ترانيم وتعاويذ ممتزجة بأعنف المقطوعات الموسيقية.. كانوا يتمايلون بأجسادهم كالمجاذيب، بعدما أشار الكاهن الأعظم إلى الفرقة بالبدء، وتعالى صوت مغنيهم بأغنية الشيطان:
- لقد أبرمتُ عهدًا مع الشيطان.. لن أموت وسأصبح خالدًا..
ليس لي دِين غيره.. دين الشيطان.. فليحيا الشيطان.. فليحيا.
بجوار مهران رُسم "اليافوميت"، رمز عبدة الشيطان القديم.. دائرة بداخلها نجمة خماسية، يملؤها رأس كبش -وهو رمز الشيطان- كما استخدمته من قبل جماعة فرسان الهيكل في العصور الوسطى في أوروبا، حيث كان الكبش مقدسًا أيضًا لدى قدماء المصريين، وتعني القوة والهيبة.
على يساره نُحِتت على الزجاج عينٌ تعلو هرمًا، وهي رمز لعين إبليس، وعلى يمينه عينٌ تسقط منها دمعة، وهي ترمز لحزن الشيطان على ظلم بني البشر له فيما سبق.
علت الابتسامة وجه الكاهن الأعظم، وهو يراهم كقطيع مِن الأغنام، ينفّذون كل أوامره في طرفة عين..
- فلنسجد للشيطان في الحال.
في طرفة عين سجدت الحشود، وهو يتلو تعاويذه المعتادة، وما إن انتهى منها حتى أمرهم بالوقوف مرة أخرى.. علا صوته على الموسيقى في مكبر الصوت أمامه:
- إن الشيطان رمز التمرد والثورة والحرية..
الإبليسية هي الاستمتاع بالملذات وليست الزهد والتقشف..
هي الواقعية وليست الأوهام والخرافات..
هي الحكمة النقيَّة وليست النفاق والكذب على النفس..
هي رد الضربة بأقسى منها وليست إدارة الخدّ الأيسر لمن ضربك..
هي أنّ حقيقة الانسان لا تُعد كونه مجرد حيوان ناطق، أحيانًا يكون
أفضل من البهائم، وغالبًا يكون أسوأ منها بدرجات..
الإبليسية هي أنّ معظم تلك التي يدعونها خطايا وذنوبًا ما هي
إلا وسائل تُفضي إلى المتعة والارتياح المعنوي والبدني والعاطفي..
الإبليسية هي الحق وماعدا ذلك فباطل.
رفع كتابه بيده ليراه الجميع لأول مرة:
- لقد أنقذنا إبليس، وأخبرنا في كتابه الطاغوت أن إشارة اتّباع الناس له
هو الخلود بلا موت.. خلود أبدي.. واليوم أعلنها لكم على لسانه..
فتح الكتاب ليقرأ منه في منتصفه:
- يا معشر الشيطان وزمرته.. إني أعِدكم خلودًا بلا موت.. أعدكم النجاة
فادخلوا في الطاغوت أفواجًا.. واتخذوا دين الشيطان مذهبًا ليبقى أبد الدهر..
علموه لأولادكم وانشروا الطاغوت عقيدةً وحكمًا..
اليوم وقد أصبحت للشيطان كنيسة في كل مكان في العالم..
اليوم أُعلنها للجميع.. الطاغوت كتابكم فاتبعوه.
تعالت أصواتهم في حماسٍ منقطع النظير:
- فليحيا إبليس العظيم.. فليحيا كاهنه الكبير.
- إنّ إبليس يدعوكم للمتعة والانتشاء.. هلموا.. هلموا.
في ليلةٍ غاب عنها القمر، ماج الجميع تحت سماءٍ ملبدةٍ بالغيوم المحتقنة، في رقص هيستيري.. خلع البعض ملابسه، وصاروا عراة كيوم ولدتهم أمهاتهم، وانخرطوا في إثم تقشعر له الأبدان، مِن دون تمييز.. يشربون الخمر والمخدرات بأنواعها، ويمارسون الجنس ويحتسون الشراب كرمال متشققة عطشى، ترتوي بالخمر لأول مرة، يلطخون أجسادهم بالدماء المنتشرة في قوارير شفافة تملأ الساحة.. دماء حيوانات مختلطة، تشتم رائحتها عن بعد.
غرقوا في شهواتهم، وتدثروا بالدماء وسط الموسيقى العالية والمتلاحقة.. يلعقون تلك الوشوم على أجساد بعضهم البعض.. ويقبلون تلك السلاسل والحلي والخواتم التي تحتوي على رؤوس الكباش.
- أنتم شركاء للشيطان في الجسد.. أنتم زمرة الشيطان فهنيئًا لكم.
قالها الكاهن الأعظم مُكررًا، ومشاركًا لهم حفلتهم اللعينة.
في مقدمة الساحة تمثال ضخم، يطوف البعض حوله.. أخبرهم فريد أنه تمثال رمزي للشيطان، وعليهم تقديسه طالما هم في حضرته.. صنع منه المئات؛ ليملأ المكان بين أسوار ذلك القصر الشاسع الاتساع.
قطع كبرى من الحجارة، يتعبدون حولها، ويلهثون من هول الشهوة.
لم يكن الوضع هكذا فقط في القاهرة المنكوبة.. بل إنه يحدث في كل كنائس الشيطان في العالم، حيث تشاهد الحدث مباشرةً عبر شبكة الإنترنت.
أشار حينها فريد مهران بيده؛ فتوقفت الموسيقى بغتة؛ وابتعد كل شهواني عن شريكه، ونظروا ناحيته مترقبين.. تداعت الدموع إلى عينيه لأول مرة.. سادت حالة مِن الصمت المطبق، منتظرين ما تخفيه تلك الدموع وراءها.
أشار الكاهن الأعظم إلى رجل بجواره، فأشار بعينيه لرجاله؛ فظهروا في الشرفة، يدفعون كراسي متحركة عليها أشخاص نائمون.
تركوهم بجوار الكاهن الأعظم، قبل أن يتحدث:
- أعرفكم بعائلتي.. إنها المرة الأولى التي أتحدث إليكم فيها عنهم.. أليس كذلك؟
هذه زوجتي، ووالدتي العجوز، وثلاث بنات، وولد في العاشرة من عمره..
عائلة عظيمة.. فعلت كل شيء مِن أجل الحفاظ عليهم.. كنت أبغي لهم الخلود من
دون موت في نعيم ورخاء.. عشت عمري أبحث عن الحقيقة، وأظنّ أنني مُلاقيها الآن.
نظروا لبعضهم البعض غير فاهمين، وتعالت همساتهم التي قاطعها فريد بدموع تتساقط:
- منذ عدة أيام.. ماتت أسرتي بالكامل في آن واحد، مِن دون سبب..
ماتوا أمام عيني، وأنا عاجز عن إغاثتهم.. صرختُ طالبًا العون منه..
أيا شيطاني!! يا مغيثي وملجئي!! أنقذ عائلة كاهنك الأعظم..
ألم تقل في كتابك الطاغوت، الذي كلفتني بدعوة الناس إليه، بأنك تعدُنا خلودًا
بلا موت؟ تعدنا النجاة! نجِّني.. أيها الشيطان.. أيها اللعين.
كان يصرخ بعلو صوته ليغتال ذهولهم.. ثم انخرط في نوبة من الضحك الهيستيري، ثم هدأ مبتسمًا:
- يبدو أنّ الشيطان كاذب..
إنّ الشيطان كاذب لعين.
هلل البعض بقوة، وساد الهرج والمرج بين جدران القصر:
- ماهذا الذي تقول؟؟
- يحيا الشيطان العظيم.
- يحيا الشيطان العظيم.
- أيها الناس.. في هذه الأيام اكتشفت أشياءَ عليّ أنْ أخبركم بها..
ذلك الكتاب اللعين الطاغوت هو سبب اللعنة.. لعنة تتنامى وتزداد..
لعنة تسبب تداخل الأزمنة والفقر والخراب.. لعنةٌ قديمة لن تنتهي
إلا على يد مُنقِذ.. مُخلِّص.. ما يحدث اليوم هو البداية.
صمت قليلًا يتابع وجوههم الشاحبة، وابتسامة المجاذيب على ثغره، وبعينين زائغتين سألهم:
- أتشتمون تلك الرائحة؟
هذا غاز سريع الاشتعال يملأ الأجواء، ولا مفرّ لكم؛ فالأبواب موصدة.
بدأ الجميع يشعر بالاختناق الشديد، ويصرخون:
- أيها اللعين.. افتحوا الأبواب.. افتحوا الأبواب.
هرعوا محاولين تسلق الأسوار العالية من دون جدوى.. ترى الذعر في أعينهم أضعافًا، وأجسادهم العارية تموج بعضها في بعض.. تعالت صرخاته في حشودهم المتفرقة:
- إن كان الشيطان صادقًا فلينقذنا.. العالم يرانا الآن..
وأقولها بكل صدق: الشيطان كاذب سفيه..
أعلم أنكم تتساءلون كيف عرفت تلك المعلومات؟
وأقول لكم: لا طائل من سؤال رجلٍ، بينه وبين الجحيم دقائق معدودة..
كم وددت أن أقابل ذلك المنقذ والمُخلِّص بنفسي!
ولكنني على موعد مع العذاب.. ولعل اسمه -آخر ما سأنطق به الليلة
- يشفع لي.
رفع يده لأعلى، وفي يده جهازٌ صغيرٌ يتوسطه زِرٌّ، وهو يشاهد جحافلهم العارية، الملطخة بالدماء كالجرذان، والغاز يسلبهم أرواحهم.. نطقها بصوت خفيض:
- مُخلِّصكم هو محمد بن عبد الله.
وفجأة تحول المكان إلى جمرات من النيران، وانقطع البثّ.. واحترق القصر بكل من فيه كقنبلة مُدَّوية، هزّت أرجاء العالم أجمع.. ليبدأ عهد جديد من الموت، بعد طول انقطاع.. عهدٌ فتحت فيه أبواب الجحيم عن حق، وبات البشر مهددين بالفَناء.
ISBN :978-977-786-255-4
السعر 65 جنية