فى ظنى أن الكاتب يحيى حقي من هؤلاء، حتى إنك ترى فعل الأنسنة يهيمن على كتاباته، هو دوما يريد أن يقول شيئا عظيما لكن يأتي به فى أبسط العبارات أو على لسان شخصيات بيننا ربما تعبر جوارنا دون التفات منا، وهنا تكمن موهبة المبدع، الموهبة التى لم تتخل عنه فى كتابة مقالاته التى أعدها وجمعها د.صلاح معاطي فى كتاب وسمه بـ" يحيى حقي أوراق مطوية "، صدر2019 عن دار غراب بمصر.
افتتح الكتاب بمقدمتين الأولى للإعلامية نهى حقى نجلته الوحيدة، والثانية للدكتور صلاح معاطى عبر فيها عن الصعوبات التى وجدها فى تجميع مادة الكتاب وألقى الضوء على مضمون بعض مقالاته.
كُتبت هذه المقالات فى الفترة من 1957م :1971م فى مجلة المجلة، وإن بدت للوهلة الأولى أنها تصوير بانورامى لجوانب من تاريخ مصر فى هذه الفترة، لكن رؤية القاص ووعيه ونظرته عالجت من خلال هذه المقالات أفكارا عديدة سياسية ومجتمعية ونقدية وفلسفية فى تكثيف وعمق وبساطة تتسق وشخصية مبدعها يحيى حقي.
افتتاحيات مقالات يحيى حقي تحتاج إلى دراسة مستقلة؛ فعين الكاميرا السينمائية لم تفارقها؛ منها ما جاء مباشرا وراصدا للواقع ومنها غير المباشر.
أما عن عرضه لموضوعات المقالات نفسها فنراه لا يتجه إلى جلد الذات وهى نغمة شائعة وسهلة لاستقتطاب القراء، لكنه كان يتبع المنهج العلمى فى كتابتها دون تقعر أو تعال لأن هدفه الأصيل كيف يصل إلى القارئ فى المقام الأول، فكان يطرح القضية أو المشكلة بشكل هادئ وموضوعى باحثا عن أسبابها ومقترحا بعض الحلول لها فى لغة تسمو بالقارىء العام وتحافظ على ود القارىء الخاص وحقه فى إعمال عقله.
تنوعت مقالات الكتاب بين قضايا الوطن وقضايا جيل يحيى حقي وقضايا جيل الشباب، مقالات نقدية وسياسية واجتماعية وبورتريه لشخصيات بعينها، أنت تقرأ من خلالها استبصارا للمستقبل حتى تظن أن المقالات كتبت فى هذه الآونة، وربما ينتابك شىء من الشجن متسائلا هل ما زال العقل العربى وأوطاننا العربية تطرح الأسئلة نفسها من عقود حتى الآن ؟!
طرح يحيى حقى سؤالا : لمن يكتب الكاتب؟ مفندا آراء بعض الكتاب التى تزعم أنهم يكتبون لأنفسهم فقط، وعن إصرارهم على التعالى على القراء كأن المبدع عليه أن يكتب بلغة متقعرة لكى يظن القارىء أن الكتابة وصاحبها فى برج عاجي، وفى الوقت نفسه رفض حقي النظر إلى القارىء على أنه أقل من الكاتب، وأن الكاتب عليه أن يكتب بلغة متواضعة، فالأمر هنا يحتاج إلى لغة تخالط وجدان المتلقى وتضيف إليه دون إدعاء، ومثّل لهذا بالكتابة فى مجلة الجمعية الزراعية أو الكتابة للأطفال.
يحيى حقي يرى القراءة غير الواعية أعيت من يداويها، ويقصد تلك الأكوام أو الرفوف التى تُلتهم دون وعى أوتفكير، قراءة تهتم بالكيف لا الكم إذا خاطبت قارئها وجدته لم يقرأ شيئا، التهم الكلمات فقط حتى ضعف بصره، وتحول إلى مصاص للكلمات تشاهده كزائر فى متحف للنماذج الموجودة داخل الكتب، همه أن يضع ما تقوله بين دفتى كتاب، وسيسعى إلى تعلم لغات أخرى ليلتهم كتبها أيضا، وإن ظننت أن القراءة أنقذت هؤلاء من الضياع ستكتشف أنها رمتهم فى محنة أشد؛ لأنها أصبحت وسيلة لا غاية، فهم من فرط اختزان المعلومات قرأوا عوالم منزوعة من التجربة المباشرة، كأنهم يهربون من الحياة بالاختباء فى بطون الكتب، ترى الواحد فيهم لا يراك على حقيقتك بل يدفنك فى كتاب حتى يتحدث معك من خلال ماقرأ لا من خلال تجربته الحية معك.
القراءة التى يعنيها هى عين الكتابة النقدية الإبداعية، يحيى حقي يطالب عام1957 أن تقوم معاهد السينما مع طلابها بعقد مقارنات بين أفلام قديمة وأخرى جديدة أعيد إخراجها للقصة نفسها مثل فيلم الملاك الأزرق الذى أنتج فى ألمانيا ثم أعادت أمريكا إنتاجه بشكل جديد فى العصر الحديث.
ولأنه مبدع فكان يشغله الكتابة عن ميلاد العمل الأدبى وإشراقه داخل النفس، وطبق ذلك على رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، ووصفه بأنه صاحب صنعة خبيئة وبارعة، محللا خطوط السرد فى الرواية، ورأى أن هذه الرواية تغفر لنجيب محفوظ إسهابه القديم فى الكتابة.
وامتدت كتاباته النقدية لكتاب الجزائر وبشكل خاص الكاتب محمد دياب؛ فقد كتب عن إحدى مجموعاته القصصية ووصف كتاباته بأنها كتابة عالمية والأحداث جزائرية، وكشف البعد الإنسانى فى كتابته، حتى إنه أحصى تكرار بعض الكلمات فى مجموعته القصصية ولم يترك الأرقام تؤرقنا لكنه حللها فى كل سياق، مثل كلمة الحزن، فرغم تكرارها فوراء ذلك أمل لا ينقطع فى الحياة، أمل متسربل فى عباءة التصوف يبحث عن الخير والحب.
قسم يحيى حقي الكُتاب إلى عقليين وقلبيين؛ من القسم الأول محمد حسين هيكل مؤلف رواية "زينب" فقد وصفه حقى أن دوافع الكتابة عنده جاءت من عبارة: "لم لا يكون لنا أدبا قصصيا مثل الغرب"، أما زعيم القلبيين فهو محمد تيمور وتلاه طاهر لاشين، وشهد حقي لتوفيق الحكيم أن سر نجاحه جمعه بين العقل والقلب، لذا كُتب له الخلود فى الأدب العالمى.
ناقش يحيى حقي أثر نشأة بعض الشعراء داخل صحن الأزهر أو دار العلوم ـ بحسب تعبيره ـ على بنية شعرهم وأغراضه، وأبدى إعجابه ببداية التحرر من القافية متى استمع الى د.محمد حسين كامل صاحب رواية القرية الظالمة.
تحدث حقي عن النثر المشعور أو الشعر المنثورعام 1957، وقال إن هذا الفن لم يعش فى مصر وهاجر إلى لبنان ثم عاد إلينا مُطعما بثقافات أجنبية وأخيلة جديدة ومذاهب حديثة، لكن عبر عن رؤيته لمستقبل هذا الفن بقوله "ولكنى لا أحسب أن بذرته الجديدة ستنبت لها فى أرضنا جذور.. إن تربتنا عنيدة " لكن الواقع والحاضر والتلقى أثبتوا عكس ذلك تماما، فالإبداع متنام ومتجدد لا يتوقف برفضه من قبل مجموعة من البشر تتقبل شكلا آخر أو تفضله.
ناقش يحيى حقي حالة التلقي عن الغرب، ونقل لنا تخوفه : ...من أجل ذلك كنا نحس أننا لا نحرث إلا قشرة السطح، وأن العمق والمستقبل يخفيان الكثير من الكنوز والألغام، كان يحس أن الفن لا يثير إلا استجابة عاجلة مندفعة كنافورة البترول لكنه فيض سيتبدد هباء وأن العمل الصحيح للإفادة من معطيات الفن وتلقيه يحتاج إلى جهد وتركيز وصبر وتأمل.
مبدع القصة القصيرة صاحب نظرة تحليلية دقيقة، تشغله قراءة البشر ونفوسهم وعقولهم ليطور خطة عمله تجاههم، هو شغوف بقراءة وعيهم حتى فى باب أسئلة القراء فى مجلة صرح بأنه لا يفهم منها شيئا إلا هذا الباب!
فطريقة طرح الأسئلة ونوعيتها كانت مقياسا لوعى بعض طبقات مجتمعه ومشاكلهم، فتدرجت الأسئلة من البحث عن الهوية حتى وصلت إلى السؤال عن كرامات الأولياء، هذه الأسئلة بالإضافة إلى ظهور مجلات دينية وصف من يكتبون فيها بأنهم لا يعرفون الفرق بين الأئمة الأربعة وبين الألف والمئذنة ويتمسكون بشرح سطحى لآيات القرآن الكريم، كلها معطيات كانت تساعده دوما على تحديد هدفه نحو مجتمعه بوصفه إنسانا ومبدعا.
هذه المعطيات دفعته أن يؤكد دوما فى كتاباته قيمة العلم وقارنها بخرافة بعض الموروثات فى قصصه وفى مقالاته فقد شغل عيد العلم أكثر من مقالة فى الكتاب أبرز من خلاله أنه السبيل نحو مستقبل أفضل للبلاد وناقش من خلالها أيضا مشاكل زيادة النسل وارتفاع نسبة الأمية وتوسيع قاعدة التعليم الفنى، وناقش رسالة المعلم بوصفها تحريكا للوعى وإثارة السؤال لا التلقين والحفظ، حتى فى احتفاله بالأعياد القومية لا تلمح تصفيقا أو تهليلا ولكن خطة عمل للغد فى هدوء المستغنى بكتابته عن كل شىء الآمل فى غد مشرق لبلاده.
يحيى حقي أوراق مطوية / مقالاته ثراء إنسانى ومعرفى، مادة حية شاهدة على عصرها بكل جدية ووضوح، ترتبط بها وتعيد قراءتها تمنحك أرواحا إلى روحك تؤكد لوعيك أن الكتابة الحقيقية رسالة، وأن فن المقالة يحتاج منا إلى بذل كل الجهد حتى يستعيد دوره الإنسانى والمجتمعى، يحتاج أن يستحيل من حالة الاستسهال إلى حالة الخلق والتأليف والأنسنة بلسان يصافح القراء على اختلاف شرائحهم لأنهم المتن الحقيقى لا الهامش كما يزعم من يزيفون رسالة الكتابة والإبداع، فأوراق يحيى حقي ومقالاته حية وظازجة وملهمة لأنها عبرت عن أحياء وكتبت لتخاطب عقولهم ووجدانهم.
السعر 85 جنية